فوائد الوحدة أو الاتحاد أوضح وأجلى من أن تذكر؛ وكذا مضار التفرق والتمزق والتشرذم. فهي أشبه بالبديهيات الفطرية عند جميع العقلاء. وقد تعرض القرآن الكريم لهذا المبدأ في عديد من الآيات الكريمة، مضافاً إلى السنة المتواترة القولية والفعلية من أجل تأصيل هذا الركن في المجتمع الإسلامي.
قال الله –سبحانه- ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران : 103]، وقال عزّ وجلّ ﴿ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال : 46].
وقد أثبتت الحياة والتجارب؛ من أراد أن يكون عملاقاً فعليه أن يتحد ويتعاون. لذا تجاوزت الدول الأوروبية جميع تراكمات الحربين العالمية الأولى والثانية، وكوّنت الاتحاد الأوروبي لتتمكن من الوقوف أمام السيطرة والهيمنة الأمريكية.
وبالرغم من العداء التاريخي بين اليهود والنصارى، لكنهم اجتمعوا وتعاضدوا في قبال العدو المشترك. وهكذا الحال في الشركات الاقتصادية والأحزاب والائتلافات الانتخابية.
مثال : ثلاث شركات من كبار شركات الفولاذ في العالم؛ شركة ألمانية وشركة فرنسية وشركة أسبانية قررت الاندماج لتكون عملاق العالم في الفولاذ، وأصبحوا شركة واحدة مندمجة.
مثال آخر: أعلن 32 حزباً في أوربا عن اتحادهم في حزب واحد.
والحاصل: الأقوياء يتجهون نحو الاتحاد ليزدادوا قوة. وأما الضعفاء فيسيرون بالاتجاه المعاكس.
ولو لحظنا محيطنا لوجدنا الانقسامات والاختلافات التالية:
1- انقسامات على أساس الحكومات السياسية، ويتفرع منها انقسامات أيضاً على أساس المناطق – المحافظات- والمدن والقرى.
ويصل الخلاف في بعض الأحيان إلى التراشق بالحجارة بين قريتين لا يفصل بينهما إلا طريق عرضه مترين أو ثلاثة.
وما زال كثير من البلدان تمنع من دخولك إلا بتأشيرة دخول وجواز سفر، وتشترط عليك الحصول على إقامة، ولا تستطيع أن تتملك فيها عقاراً.
2- انقسامات على أساس الدين، والمذهب، والقواعد الفكرية (علمانية- ليبرالية- ...الخ). ويتفرع منه انقسامات على أساس مرجع التقليد أو منهج العقيدة أو ما شابه.
ولا يكاد ينجو من هذه التمزقات فرقة أو طائفة. ومحنة خلق القرآن الكريم لم تزل مستمرة في بعض الكتابات حتى هذا اليوم. وقد جمع سماحة الشيخ علي آل محسن بعض الشواهد على ما قاله أصحاب المذاهب الأربعة في ذم بعضهم، وكذا بعض الشواهد للتعصب المذهبي لديهم، فراجع كتابه (مسائل خلافية حار فيها أهل السنة).
3- انقسامات حزبية. ويا ليت الأمر يقف عند فرح كل حزب بما لديه، بل تتفاقم المشكلة إلى السعي الحثيث لتشويه صورة الحزب الآخر وتسقيطه في أعين الناس.
4- انقسامات على أساس العرق واللغة.
وكل لون من ألوان التمايز والانقسام، قد صنع له فلسفة وتنظيراً، وشاد عليها مواقف وهياكل، بهدف الدفاع عن الذات، والخصائص المميزة، في مواجهة ما يعتبره تهديداً لتلك الخصائص.
ويجب أن نعلم بأن النزاعات والخلافات الداخلية تستنزف قدرات الأمة أكثر من النزاعات الخارجية. ففي تقرير - صادر عن مركز الدراسات الإستراتيجية عن جريدة الأهرام في مصر - كان عدد الضحايا في صراعنا مع العدو الإسرائيلي خلال العقود الخمسة الماضية 200 ألف شهيد،لكن عدد القتلى في صراعاتنا الداخلية 2،5 مليون قتيل.
أما على المستوى الاقتصادي يقول هذا التقرير: تكلفت الأمة في صراعها مع العدو الصهيوني خلال الخمسين سنة الماضية 300 بليون دولار، لكن خسائرنا في الصراعات الداخلية 1،2 تلريون .
- المراد بالتقريب بين المذاهب:
اختلف دعاة التقريب في شرح مرادهم من هذه الدعوة ومحتواها وشرائطها، وبالتالي تتفاوت ردود الفعل من التقريب.
وهنا نذكر باختصار منهجين رئيسين مختلفين للتقريب :
المنهج الأول: يحاول أصحاب هذا المنهج حذف بعض العقائد أو الأحكام الفقهية أو السلوكية من هذا المذهب وهكذا من المذهب الآخر، وهكذا تقل الاختلافات بين المذاهب ويحصل التقارب.
وفي أحسن الأحوال لا يدعو أصحاب هذا المنهج إلى حذف ما تقدم، ويكتفون بدعوى تعطيل ذلك ولو بشكل مؤقت مراعاة للمصالح العليا.
المنهج الثاني: يطرح أصحاب هذا المنهج التقريب بمعنى التآزر والتكاتف والتناصر، وتراصّ الصفّ، والتراحم والتعاطف ودفاع بعضهم عن بعض.
وهذا التقريب يتم من خلال ما يلي :
1- التركيز على مساحات الاتفاق والهموم المشتركة بين المذاهب:
هناك مساحات شاسعة من الأمور المتفق عليه بين جميع المسلمين، فلماذا نتجاهل جميع ذلك وننظر إلى الجزء الفارغ من الكأس؟!. ولماذا لا نتعاون في إيجاد حلول ومعالجة الهموم المشتركة؟!. يمكننا التحرك والعمل معاً في تلك الدوائر.
2- التعارف العملي والفكري:
انقطع حبل التواصل العلمي المباشر بين علماء المذاهب لحقبة طويلة، وأصبحت معرفة كل طرف بالآخر تتم غالباً عن طريق الكتابات الوسيطة، والانطباعات المنقولة، وعادة ما يصل إلى كل طرف أسوأ ما في وسط الطرف الآخر من آراء وأفكار، ويجري تعميمها وتشكيل صورة الآخر من خلالها.
فإصلاح العلاقات بين المذاهب الإسلامية لا يتحقق إلا بإصلاح المعرفة بين المذاهب، والمعرفة لا تعني بالضرورة الاتفاق، بل يبقى الحق في الاجتهاد واختلاف وجهات النظر، كما نؤمن بواقع التعدد والاختلاف.
وكثيرًا ما نجد أن بعض النزاعات العلمية -بعد التأمل فيها- إنما هي خلافات لفظية ناتجة عن اختلاف زوايا النظر أو اختلاف في المصطلحات.
3- إيضاح الموقف العام المتبنى:
في أوساط كل مذهب هناك آراء شاذة، وتوجهات فردية، وسلوكيات خاطئة، وضمن أجواء الإثارة والخلاف يتم إيصالها للآخر وتضخيمها وتعميمها، فينظران إلى بعضهما من خلالها، مما ينتج رؤية مشوشة، وظنوناً سيئة، تكرّس حالة الخلاف والصراع.
إذن اتضح مما تقدم:
المنهج الصحيح للتقريب بين المذاهب ليس بإيجاد مذهب جديد يتفق عليه المسلمون، وليس هو التنازل أو حذف بعض العقائد هنا أو هناك كالقول بعصمة أهل البيت –عليهم السلام- أو عدالة جميع الصحابة، وليس هو التبديل في الأحكام الفقهية الفرعية كأحكام الصلاة أو الوضوء أو الحج أو غيرها.
ولو رجعنا إلى علاقة اليهود والنصارى بالمسلمين أبان حياة رسول الله – صلّى الله عليه وآله- وأبان خلافة أمير المؤمنين – عليه السلام - :
هل ألزم الرسول اليهود والنصارى بالتخلي عن عقائدهم ليعيشوا في كنف وحماية الدولة الإسلامية؟
إذا كنا لا نشترط تخلي النصراني عن عقيدة الثالوث لنقيم معه علاقات دبلوماسية واقتصادية وعسكرية وغيرها، بل وليعيش هو أيضاً تحت رعاية الدولة الإسلامية، فلماذا نتشدد مع الطوائف الإسلامية ونرفض مد الجسور معها إلا بعد تخليها عن بعض العقائد أو الأحكام الخاصة بأتباعها.
وقد رأينا أن الاختلافات بين اليهود والنصارى لم تمنعهم من توحيد الجهود في المشتركات، ولم يشترط النصراني على اليهودي الدخول في دينه أو التخلي عن عقيدته.
كما أن التقريب لا يعني سد باب دعوة كل مذهب إلى نفسه، ما دام يعتمد أسلوب الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة دون تجريح أو استغلال. وإنما نرفض محاولات الاستغلال السيئ، والاستضعاف، والجدال العقيم، وفرض الرأي، وأمثال ذلك.